رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

..وماذا عن الاقتصاد السوداني ؟!

1544

الثورات عادة هى «محطات مؤقتة» فى حياة الشعوب والدول، وتستهدف غالبًا تغيير الأوضاع القائمة إلى الأفضل.

ومن المتفق عليه أن الشعوب لا تأكل من «الشعارات الثورية»، وإنما هى عنوان لمرحلة جديدة تتوافر فيها المتطلبات الضرورية لحياة كريمة، منها المآكل والملبس والمسكن، ثم التعليم الجيد والرعاية الصحية اللائقة.. إلخ.

وإذا كان السودان الشقيق مازال فى «مراوغة سياسية» بين شباب الثورة والمجلس العسكرى الحاكم للاتفاق على شكل الحكم وأركانه ومؤسساته فى المرحلة الانتقالية الممتدة لثلاث سنوات مقبلة، فلا شك أن الفقر والبطالة وعدم المساواة والفساد بكافة أشكاله، هى المحرك والدافع الأساسى لثورة الشباب السودانى فى ديسمبر الماضى.

وأعتقد أن تلك المفاوضات السياسية – طالت أو قصرت – سوف تنتهى وتستقر الأوضاع، ثم يبدأ الأشقاء فى السودان فى بحث تطبيق الشعارات الثورية على أرض الواقع، خاصة فيما يسمى بالعدالة الاجتماعية والتى تستوجب إعادة النظر فى الوضع الحالى للاقتصاد السودانى.

أى لا بد أن يكون لثورة الشباب السودانى برنامج اقتصادى واضح المعالم ومحدد الأهداف، ويتم تنفيذه على مراحل زمنية مختلفة اعتمادًا على ما يملكه السودان الشقيق من خبرات أو ميزات نسبية، وبمساعدة من الأشقاء أو المؤسسات الدولية المعنية بذلك.

ونظرًا لأن الاقتصاديات العربية تكاد تتشابه فى مكوناتها ومشاكلها وأساليب الإصلاح، فسوف أعرض هنا ما اقترحه الصديق والخبير الاقتصادى د. إبراهيم البدوى – سودانى الجنسية – مدير منتدى البحوث الاقتصادية، من ملامح رئيسية للبرنامج الاقتصادى للثورة السودانية، والذى يمكن أن يطبق أيضًا – بعد استقرار الأوضاع فى البلدين الشقيقين سوريا وليبيا!

والدكتور البدوى يقترح أولًا برنامج إسعافى لمدة شهور قليلة بهدف تثبيت الاقتصاد وإعادة هيكلة الموازنة، أى عملية «إنعاش» سريعة للاقتصاد السودانى.

وهذا البرنامج الإسعافى يقوم على كبح جماح التضخم ووضع حد لإنهيار العملة الوطنية، ففى رأيه أن أسوأ أنواع الضرائب وأشدها إيلامًا للفقراء هى التضخم، حيث هو ضريبة مكتملة الأركان يدفعها المواطن لتمويل عجز الموازنات المنفلتة لفائدة الطبقة الطفيلية المتنفذة، ومن ثم يطالب بملاحقة الفساد وتصفية مكاسب طبقة الإنقاذ التى حكمت السودان طوال الأعوام الماضية، وإعادة النظر فى أولويات الموازنة العامة، وترشيد الدعم السلعى وحصره فى الدعم النقدى المباشر، مع السعى لإعفاء أو تخفيض الدين الخارجى، والحصول على قروض ميسرة من البنك الدولى.

هذا مع ضرورة تبنى سعر صرف مرن، وإعادة تأهيل القطاع المصرفى ليتمكن من القيام بدوره فى الوساطة المالية اللازمة لتمويل الاقتصاد.

كما يطالب بضرورة إعادة النظر – وهو ما ينفرد به السودان – فى الحيازات لمساحات شاسعة من الأراضى الزراعية قدرت بملايين الأفدنة لشركات أجنبية خاصة بموجب اتفاقيات سرية.

وبالطبع هذا البرنامج الإسعافى يحتاج لتمويل، هنا د. إبراهيم يرى أن (الإحسان يبدأ من أهل البيت)، حيث يقترح ما يسمى بـ «الديسابورا السودانية» أى صندوق الإعمار وبناء القدرات، والذى يمول من مساهمات السودانيين بالخارج والذين يقدر عددهم بأكثر من خمسة ملايين، فهؤلاء يمكنهم الاكتتاب فى السندات أو الصكوك المكونة لرأس مال الصندوق، الذى يمكن أن يصل إلى خمسة مليار دولار، بواقع ألفين دولار لكل مكتتب فى المتوسط.

هذا بالإضافة إلى إمكانية الاستفادة من الكفاءات السودانية فى الخارج سواء من خلال العودة النهائية أو الجزئية.

ويعتقد أن هذا الصندوق، مع ترشيد أوجه الصرف فى الموازنة العامة، بالإضافة إلى الحصول على قروض خارجية ميسرة، سوف يتوفر التمويل المطلوب لبرنامج إنقاذ الاقتصاد السودانى بشكل سريع.

ولا يكتفى د. إبراهيم بذلك، وإنما يقترح أيضًا خطة اقتصادية عشرية للنمو المستدام فى الاقتصاد السودانى تمتد من 2020 إلى 2030.

ولكنه يشترط أن يكون هذا البرنامج مشروعًا وطنيًا يحظى بالإجماع، مع استهداء الفكر الاقتصادى الحديث، والاستفادة من التجارب السابقة للدول الناجحة والفاشلة أيضًا.

ويعتقد أن الاقتصاد السودانى يتميز بعاملين أساسيين، هما الشباب والقطاع الزراعى، والأول يعانى من البطالة الشديدة والتى تصل نسبتها لأكثر من 40%، والثانى يعانى من الإهمال الشديد بخلاف توزيع مساحات شاسعة لشركات خاصة تستنزف خيراتها.

وملامح تلك الخطة العشرية التى يقترحها د.البدوى تتلخص فى دور رائد للدولة لتوفير البنية التحتية، والهياكل التنظيمية والقواعد التشريعية، باعتبارها مدخلات مكملة لعملية التنمية الاقتصادية، مع توفير التعليم والتدريب وتشجيع الأبحاث والتطوير.

وأيضًا تحفيز وتشجيع القطاع الخاص، وإعداد برامج تشغيل الشباب على الصعيدين، المرحلى والبعيد، ثم إطلاق برنامج للنمو المستدام المتنوع والمتعدد الأقطاب، والذى يعمل على إحياء مشروع حزام الصمغ العربى والزراعة المطرية، وكذلك مشروع الجزيرة الزراعى، ثم مشروع الساحل السودانى من النيل إلى البحر الأحمر، وأخيرًا مشروع المدن المنتجة.

كل ذلك بالتزامن مع تحقيق السلام من خلال إنهاء النزاعات الداخلية المسلحة، وإقامة ما يسمى بالتوأمة مع دولة الجنوب فى إطار استراتيجية للتكامل الاقتصادى.

وأعتقد أن ما قدمه د. إبراهيم البدوى.. هو برنامج وطنى للإنقاذ قابل للتنفيذ، سواء فى شقه العاجل او المستديم، لأنه يستهدف التشغيل ومكافحة الفقر فى المجتمع السودانى ويعتمد على جهود وإمكانات السودانيين أنفسهم، ولا مانع من مساعدة الأصدقاء.

ولكنه يختلف تمامًا فى أهدافه ومكوناته عن برامج «التكييف الهيكلى» التى يفرضها صندوق النقد على الدول التى تطلب مساعدته.

ونحمد الله أننا خرجنا من عباءة الصندوق، وحققنا نجاحا ملحوظًا انعكس فى المؤشرات الاقتصادية الجيدة، ولكننا مازلنا أيضًا نحتاج لبرنامج لمكافحة الفقر، خاصة بعد أن كشفت بحوث الجهاز المركزى للمحاسبات عن زيادة نسبته.. وهو موضوع المقال المقبل.. إن شاء الله.