رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

دعم الثقافة.. وبناء الإنسان المصري

2306

تمثل الثقافة الجانب غير المادى من الحضارة الإنسانية، وهى ليست كلمات نقرأها فى الكتب، أو دقائق نستمتع خلالها بسماع أغنية، أو ساعة ونصف نشاهد خلالها أحد الأفلام، ثم ننسى ونعود كما كنا، فالثقافة أسلوب حياة تظهر فى سلوك كل فرد، وتشكيل ثقافة المواطن لتصبح أسلوب حياة عملية صعبة تتطلب وجود رؤية أولاً، وكثيرمن الجهد والمال ثانيًا.
وثقافة الإنسان هى التى تضبط سلوكه وتصرفاته وعلاقاته المجتمعية والإنسانية، لذلك فلم يعد الاهتمام بالتكوين الثقافى للفرد أمرًا ثانويًا، إنما هو أمر حيوى لصالح الوطن.
ونعود بالزمن إلى عام 1958 والرئيس جمال عبد الناصر يحاول إقناع د. ثروت عكاشة بقبول منصب وزير الثقافة فيقول له: «بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام فى بناء الإنسان».
ويكمل: «إن مهمتك هى تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصرى، وأعترف أن هذه أشق المهام وأصعبها».
ويقبل د. عكاشة المنصب لتقوم على يديه ثورة ثقافية شاملة فى مصر، وكان شعار سياسته «الفن الرفيع من أجل بناء مجتمع أفضل».
د. ثروت عكاشة تولى وزارة الثقافة لفترتين الأولى من 1958 – 1962 والثانية من 1966 حتى 1970، أسس خلالها البنية الأساسية الحقيقية للوزارة، فهو واضع اللبنة الأولى لهيئات المسرح والسينما والفنون الشعبية وأكاديمية الفنون والمتاحف وهيئة الكتاب وغيرها، ما أدى إلى نهضة ثقافية حقيقية خاصة على المستوى الفكرى، ويراه الكثيرون الشخصية الثقافية الأولى فى مصر.
د. عكاشة طبق مجانية الثقافة فأنشأ أكاديمية الفنون لدراسة السينما والمسرح والموسيقى والباليه، وأنشأ مؤسسة المسرح بمسارحها المختلفة وذلك بجانب مسرح التليفزيون، فأوجد حالة مسرحية كبيرة وأقبل الناس على مشاهدة المسرح.
وأنشأ مؤسسة السينما للإنتاج والتوزيع ودور العرض، وأنشأ مؤسسة التأليف والترجمة والنشر، التى أصدرت السلاسل الرخيصة الثمن كبيرة القيمة مثل «المكتبة الثقافية – المسرح العالمى – أعلام اعرب.. وغيرها.
وكان د. عكاشة يعتبر أن التثقيف هدف قومى ولذلك لم يعتبر الكتاب سلعة تربح المؤسسة من نشره بل اعتبره خدمة قومية.
هذه السلاسل من الكتب الثمينة أسهمت فى تشكيل عقول المصريين، كما أنشأ الثقافة الجماهيرية – هيئة قصور الثقافة، التى أخذ فكرتها من فرنسا التى كان يعمل بها، وكانت قصور الثقافة منتشرة فى كل مدن فرنسا.
والثقافة الجماهيرية هى الأساس الراسخ الذى يجب أن نبنى عليه أى نشاط ثقافى.
فأنشأ د. عكاشة 24 قصرًا فى أنحاء مصر من مرسى مطروح إلى أسوان، وكانت الحالة الثقافية التى قادها د. ثروت عكاشة وزيرًا هى الأهم فى تاريخ مصر.

إن كلمة ثقافة مشتقة من الفعل ثقف، بمعنى هذب وشذب.
فالثقافة هى التى تهذب السلوك البشرى وتجعله يسعى إلى الرقى، وفى المعجم تجد كلمة «ثَقّفَ» بمعنى صار حاذقًا، وثقف الأمر أى فهم مقاصده، والكلمة فى اللغة تعنى المعرفة والتبصر.
وتتكون الثقافة عبر عملية معقدة تشترك فيها الأسرة والمؤسسات التعليمية والثقافية، والمجال الثقافى يشمل ما يُقدم من فنون كالسينما والمسرح والموسيقى والفن التشكيلى ومجالات الأدب كالشعر والرواية، والحرف التراثية والفنون الشعبية.. كل هذه العناصر تتفاعل لترتقى بالنفس البشرية، وبخاصة جوانب المشاعر والوجدان، فترتقى بالذوق والسلوك.
فالثقافة التى تنتج مختلف صنوف الفنون هى الأصل فى تكوين الوعى الجمالى لدى الفرد.
ومهمة وزارة الثقافة ليست فقط التعامل مع المثقفين.. ومهمة الوزير ليست فقط افتتاح معرض الكتاب أو مهرجانات السينما، فالارتقاء بثقافة المواطن يتطلب رؤية شاملة، وهى مهمة شاقة تتطلب جهودًا كبيرة تشارك فيها كل مؤسسات الدولة، وفقًا لمنظومة تحدد لكل جهة دورها.
أيضًا للمثقفين دور ريادى فى المرحلة الحالية، والتى ينبغى عليهم الخروج من ذواتهم إلى المجتمع بطرح أفكار إبداعية جديدة، والكف عن ترديد الأفكار التقليدية التى ظلوا يرددونها لعقود مضت.
إن المجتمع ينظر إلى المثقف كمدافع عنه وأنه قادر على تخفيف هموم الناس، وهذه المكانة تكسب المثقفين احترامًا اجتماعيًا، لذلك يجب أن يكونوا على قدر المسئولية والأمانة، فى القيام بدورهم فى تطوير الثقافة العامة فى المجتمع.

حال الثقافة فى مصر الآن لا يسر أحدًا، فهى وزارة تكاد تكون بلا ميزانية حقيقية، لأن 90% من ميزانية الوزارة تذهب لتغطية المرتبات، و10% فقط تتبقى لمختلف المجالات الثقافية، فهناك مشروعات سينمائية ومسرحية أو نشر لا يتم إنتاجها بسبب أن الميزانية لا تسمح.
كما ارتفعت تكلفة طبع الكتب وارتفاع أسعار الورق وخامات الطباعة، خاصة بعد تحرير سعر الصرف مع عدم زيادة ميزانية الوزارة.
وبالتالى أصبح الإنتاج الثقافى مهددًا بالتوقف، ولنقرأ «المادة 48» من الباب المعنون بالمقومات الثقافية فى الدستور، والتى تنص على أن الثقافة حق لكل مواطن على الدولة أن تكفله دون تمييز بسبب القدرة المالية أو البُعد الجغرافى أو أى أسباب أخرى، مما يعنى أن الدولة عليها أن تدعم المنتج الثقافى بمختلف أشكاله حتى تضمن وصوله إلى المواطنين جميعًا، بحيث لا يقف سعر الكتاب مثلاً حائلاً دون وصوله للقارئ غير القادر.
فمن غير المنطقى أن تقدم قصور الثقافة خدماتها بمقابل، كما لا يجوز وقف عروض المسرح القومى.. وفى الختام نتساءل: كم ننفق على دعم غذاء البطون، وكم ننفق على غذاء العقول؟! إذا كنا نهدف حقًا إلى بناء الإنسان المصرى، وأن نحافظ على هوية الشخصية المصرية، وتحقيق عدالة ثقافية، فيجب دعم الثقافة بكل فروعها، وأن تزيد ميزانية الوزارة ليكون هناك دعم حقيقى للمسرح والسينما والكتاب.