رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

جولدا لا تقول الحقيقة كاملة

420

لا نستطيع أن ننكر أو نغفل تفوق الصهيونية العالمية فى الإعلام والدعاية والسيطرة على الرأى العام العالمى، ونحن فى عصر الصورة التى أصبحت أقوى من الأسلحة التقليدية لأى جيش، لأنها تؤثر فى الوعى الجمعى للمجتمعات تأثيرا يدوم عشرات السنين ويتحول – من خلالها مع الوقت – الادعاء إلى حقيقة وواقع تُبنى عليه النظريات .

د.إسلام على جعفر

فى الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر يتبادر للذهن سؤال من انتصر فى هذه الحرب؟ طبعاً الإجابة ستكون مصر ولكن فى معظم دول العالم ستكون الإجابة إسرائيل، فقد استطاعت من خلال استخدام المواد الفيلمية التى صورتها فى عملية الثغرة وخاصة زيارة جولدا مائير للضفة الغربية قبل وقف إطلاق النار إقناع العالم أن إسرائيل هى المنتصرة، فقواتها تتمركز غرب القنال حيث جرت المفاوضات عند الكيلو 101 فى طريق القاهرة السويس.
والتكنيك المتبع بسيط ولكنه عظيم التأثير فى خلق التضليل، فحينما تضع جزءا كبيرا من الحقيقة ثم تختمه بكذبة تعتمد على برهان هو الصورة فبذلك تكون قد حققت هدفك، وهو ما قدمه فيلم جولدا الذى تم عرضه بمناسبة مرور نصف قرن على حرب أكتوبر.
الفيلم مدته 100 دقيقة إنتاج أمريكى إنجليزى مشترك وهو سيرة ذاتية لرئيسة وزراء اسرائيل جولدا مائير التى تولت المنصب ابتداء من عام 1969 واستقالت عام 1974 بسبب حرب أكتوبر، وتدور أحداث الفيلم خلال فترة حرب أكتوبر خاصة الجبهة المصرية وكيف تعاملت جولدا مع الحرب رغم إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية وتعرضها لجلسات العلاج الإشعاعية أثناء الحرب، وينتهى الفيلم بوفاتها عام 1979 وهى تشاهد لقائها مع السادات أثناء زيارته للقدس فى عام 1977.
مهارة التخطيط ودقة التنفيذ
تم التخطيط لهذا الفيلم بعناية وكان الغرض منه استهداف الرأى العام العالمى وبالتبعية الرأى العام العربى الذى يتابع بشغف السينما الأمريكية، فكانت اللغة الانجليزية مع مواد وثائقية باللغة العبرية وأصوات محادثات المقاتلين عبر أجهزة اللاسلكى.
ثم كان اختيار طاقم العمل الذى اختير له مخرج إسرائيلى حائز على جائزة الأوسكار من قبل هو جاى ناتيف لأفضل فيلم قصير عن فيلم Skin والذى يناقش قضية التفرقة العنصرية، وله فيلم آخر يتناول نفس القضية هو Strangers ويدور حول يهودي وعربي يلتقيان فى قطار ويواجهان مجموعة من النازيين الجدد. إذاً نحن أمام مخرج يكره العنصرية وله سمعة جيدة رغم أنه لم يتعرض لعنصرية الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين، ثم ننتقل للبطلة هيلين ميرين الممثلة الانجليزية الحاصلة على الأوسكار عن تجسيدها لشخصية الملكة اليزابيث الثانية فى فيلم الملكة عام 2006، ممثلة مخضرمة لها شعبيتها الكبيرة فى الغرب وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى العديد من المهرجانات وقد كانت قامت ببطولة فيلم The Debt عام 2010 والذى يتناول موضوع الهولوكوست وانغمست فى دراسات اللغة العبرية والتاريخ اليهودي وما كتب عن المحرقة أثناء وجودها فى إسرائيل لتصوير الفيلم، كما يقوم بدور هنرى كيسنجر وزير خارجية امريكا فى هذا الوقت احد نجوم هوليوود وهو الممثل اليهودى ليف شرايبر، ومعظم طاقم العمل من الممثلين الاسرائيليين أو الغربيين اليهود.
والفيلم يغازل الحركة النسوية ذات النفوذ فى الغرب بتناوله لقصة أول وآخر رئيسة وزراء إسرائيلية والتى كانت تلقب بالمرأة الحديدية قبل مارجريت تاتشر، فهى المرأة التى سيطرت على الرجال فى الحرب وفرضت إرادتها عليهم، كما أنها استقالت عندما شعرت بمسؤوليتها عن الخسائر فى الحرب وهو ما لم يكن يفعله أى رجل لو كان فى مكانها.
ويتم الدفع بهذا الفيلم من وراء الستار ليدخل سباق الأوسكار حتى يحصل على أعلى نسبة مشاهدة تحقق الهدف الدعائى الذى أنتج بسببه ولن يمثل هذا صعوبة نظراً لسيطرة اللوبى اليهودى بصورة كبيرة على صناعة السينما فى أمريكا.
حقائق وأكاذيب
«أول القصيدة كفر» فى هذا الفيلم الذى يقدم إسرائيل بوصفها المنتصرة فى حرب أكتوبر حيث يبدأ الفيلم بذهاب جولدا لأخذ أقوالها فى لجنة القاضى اجرانات التى تشكلت للتحقيق فى أحداث الحرب والمظاهرات تهتف ضدها، كيف لدولة انتصرت فى حرب يتم التحقيق مع قادتها؟ ففى اى حرب هناك خسائر لكن النصر يمحو أى خسارة، إذا هو اعتراف بأن لم يكن هناك أى انتصار.
ويعتمد سيناريو الفيلم وسيناريو الحرب على الإعلان الإسرائيلى منذ عدة سنوات بأن أشرف مروان كان جاسوسا مزدوجا – وقد عرضوا ذلك من قبل بالتفصيل فى فيلم الملاك عام 2018 – وأنه أخبرهم بمعلومتين؛ توقيت الحرب وتطوير الهجوم، ولكن من الغريب أنه رغم معرفتهم بيوم العبور اختلفوا فى حجم القوات التى يجب استدعاؤها فمن المنطقى أنه إما هناك حرب أو لا وبالتالى المفروض استدعاء جميع القوات، ويظهر الفيلم فشل جميع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فى معرفة توقيت الحرب ليجعل اشرف مروان المصدر الوحيد للمعلومات التى يتبعها الجيش الإسرائيلى حتى خلال مراحل القتال، هل هذا منطقى؟ إنهم يستهدفون تشكيك الرأى العام العربى فى قياداته.
ثم تستمر أحداث الفيلم كيوميات للحرب فيستعرض من خلالها السيناريست من خلال الوثائق المفرج عنها حجم المفاجأة والذعر الذى أصاب قيادات إسرائيل، فموشيه ديان يصاب بالإعياء عند زيارته الجبهة السورية ويفقد عقله ويطلب استخدام السلاح النووى لأن الخسائر فادحة ويقدم استقالته، وجولدا مائير تطلب من سكرتيرتها أن تقتلها إن دخل المصريون تل أبيب وتحلم بكوابيس، كما استخدم المخرج التسجيلات الأصلية اللا سلكية بين المقاتلين والتى ترصد يوم الاثنين الأسود 8 أكتوبر حينما سحقت القوات المصرية الهجوم المضاد الإسرائيلى، والتى كانت من ضمنها أصوات الاستغاثات التى تنتهى بصوت مقاتل مصرى استولى على الدبابة الاسرائيلية بعد قتل طاقمها، فتقوم جولدا من الغيظ والحزن بالضغط بأظافرها على يدها فتقطعها وتنزف دمًا.
ومن الأحداث غير المنطقية توقع القيادة الإسرائيلية عبور قوات النسق الثانى التى تحمى المنطقة بين الجيشين إلى الشرق لتطوير الهجوم حتى يتمكن شارون بعد ذلك من العبور للغرب، وهو طبعاً أمر مضحك فماذا لو لم يتخذ السادات قرار التطوير واستمع لسعد الشاذلى كانوا سيستلمون الهدف هو إظهار بعض الحنكة التى لم يكونوا يمتلكونها وكانت غطرستهم سبب هزيمتهم من البداية.
من أطرف الأحداث فى السيناريو هو الحوار الذى دار بين جولدا مائير وكيسنجر عند زيارته لإسرائيل وكيف أنهم يحاولون ألا يدمروا قوات الجيش الثالث المحاصر حتى لا يحولوا الأسر لأرامل وأيتام، فى حين أن كلاهما يداه ملوثة بالدماء فجولدا لا تعترف بوجود الفلسطينيين وأشرفت على التطهير العرقى وتحويلهم للاجئين وكيسنجر قنابله مسحت قرى فى كمبوديا ومناطق أخرى.
ويعتبر التجاهل وعدم ذكر الأحداث إحدى وسائل التضليل، فلم يذكروا محاولتهم الفاشلة لاحتلال السويس يوم 24 أكتوبر وخسائرهم الكبيرة، ولم يذكروا تهديد كيسنجر للسادات بعدم تصفية القوات الاسرائيلية غرب القناة بعد أن رصدوا الخطط المصرية لسحقها، بل على العكس تظهر جولدا بنظرة استعلاء وتطالب بأن يعترف السادات بإسرائيل قبل وقف اطلاق النار كأنها منتصرة. وهنا نتوقف لحظة لنحكم العقل إذا كانت إسرائيل دخلت مفاوضات الكيلو 101 وهى منتصرة فلماذا وافقت على سحب قواتها من الغرب للشرق دون أن تسحب مصر قواتها من الشرق للغرب؟ لقد تأكدت إسرائيل أن قواتها فى الغرب هدف سهل ومهدد فسارعت لاتفاق وقف إطلاق النار.
لا يجب أن يقع المشاهد فى فخ الفيلم فى إنه فيلم محايد بسبب تسجيله حجم الانتصار المصرى فى بداية الحرب فهذه حقيقة لا يستطيع انكارها، ولكنه يحاول أن يستدرج المشاهد للخروج بنتيجة واحدة هى انتصار إسرائيل وهو وهم صاغته قدرتهم على استخدام الإعلام والسينما.
مستوى فنى هزيل
حينما سأل المخرج جاى ناتيف كيف تقدم فيلم عن الحرب لا نرى فيه موقعة واحدة؟ أجاب أنه يرى الحرب بأعين جولدا فقط. فكانت النتيجة أن الفيلم لا يخرج عن المكاتب الحكومية والمستشفى فخلق نوع من الكآبة لمشاهديه.
أفضل شيء فى الفيلم هو أداء هيلين ميرين التى كافحت من تحت اللدائن التى لفت جسمها لتصبح فى حجم جولدا مائير والمكياج المتقن الذى أذاب ملامحها الأصلية فحيلة تحولها الجسدي غالبًا ما خنقتها، وعلى النقيض فى اختيار ليف شرايبر الذى كان أطول من كيسنجر بكثير ولم يلقى اهتمام بتحويله ليشبه كيسنجر كما لاقت هيلين ميرين.
يحاول الفيلم اظهار جولدا مائير بصورة مثالية جدًا مما أعطى تأثيرا عكسيا بفقدان الفيلم لمصداقيته، فهى لا تفقد أعصابها وقراراتها سليمة على أسس منطقية وتتمتع بقدر كبير من الإنسانية فتتعاطف مع كاتبة الاختزال التى تفقد ابنها فى الحرب، وحتى عندما أخبرتها الموساد أن رئيس المخابرات العسكرية للجيش الإسرائيلي إيلي زيرا قد أهمل مراقبة الإشارات الاستخبارية من الجانب المصري بشكل صحيح، مما سمح بمهاجمة إسرائيل دون علم؛ على الرغم من فزعها، اختارت تحمل اللوم بدلاً من ذلك. كما يربط المخرج روحها بالحرية حينما نراها تتابع الطيور وحينما تموت على سرير المرض تموت الطيور وتتبعثر فى ردهات المستشفى. وهو تصور عبثى لايلائم احدى صقور إسرائيل الأكثر تشدداً.
لقد خسرت إسرائيل حرب أكتوبر على الأرض ولكن فازت بها على الشاشة لأنها اهتمت بتوثيقها بالصورة خاصة فى مراحل تقدمها، اما ماذا قدمت السينما المصرية لهذه الحرب فهو ما سنتعرض له فى الأسبوع القادم.
وللحديث بقية.