رابط الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية

صناع العشوائيات..وإهدار المال العام

1675

تواجه مصر مشكلة التعدي على الأراضي الزراعية وأراضي الدولة منذ فترة طويلة، لكن لم تكن ثمة إرادة سياسية حقيقية للقضاء على تلك الظاهرة التي خلقت العشوائيات، وتضخمت الأزمة بعد أن كانت إحدى وسائل الدعم للنواب من أعضاء الحزب الوطني المنحل فى فترات الانتخابات.. وهنا قد يتساءل البعض كيف تكون العشوائيات دعمًا لهم؟ علينا أن نتذكر قرارات الحكومة فى تلك الفترة خاصة وزارة الكهرباء والتنمية المحلية والإسكان والمرافق، والتي كانت تقوم بتوصيل المرافق للعشوائيات لتحولها إلى واقع دون تخطيط، لتتفاقم المشكلة.
كانت العشوائيات إحدى مخرجات تلك الأزمة، وتطورت عملية استغلال غياب القانون وفساد بعض موظفي الإدارات المختلفة بدءًا من المحليات وانتهاءً بعدد من الوزارات الأخرى كالزراعة والصناعة والمالية، بالإضافة إلى سلبية المواطن.

عقب 2011 تحول الأمر إلى كارثة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فظهرت امتدادات عمرانية غير مخطَّطة، وتعديات على الأراضى الزراعية، تحولت بعض الشوارع إلى أسواق عشوائية، مشهد عبثى استغل الحالة التى كانت تعيشها الدولة خلال فترة ما بعد يناير 2011.
لم تكن الحكومة فقط بمؤسساتها وقطاعاتها المختلفة المسؤول الوحيد عن هذا المشهد الكارثي، ولكن أيضًا سلبية المواطن كانت إحدى أدوات تشكيله.
فى يوليو 2014 قررت القيادة السياسية أن تواجه التحديات لبناء دولة قوية مع عدم السماح بتكرار هذا العبث (نمو العشوائيات) خاصة إذا كانت عملية تطوير العشوائيات تلتهم خمسة أضعاف ما كان من الممكن إنفاقه لبناء منظومة جيدة التخطيط.
كان الهدف الأول بناء الإنسان والحفاظ عليه وبناء دولة حديثة، لكن فى ظل وجود مناطق عشوائية تعانى من أزمات متلاحقة فى البنية التحتية وغيرها، يصبح تحقيق هذا الهدف أمرًا مستحيلًا.
لذا كان لابد من مواجهة الخطر الداهم الذى شمل البناء العشوائى والتعدى على الأراضى الزراعية وأراضى الدولة وإنشاء كيانات خارج إطار القانون.
كان لابد أن تكون المواجهة قوية وحاسمة من جانب القيادة السياسية وبعض أجهزة الدولة، ومع المواجهة تم حصر الأمر فى مخالفات البناء والتعدى على الأراضى الزراعية وأراضى الدولة، لكن الحقيقة أن كل ما يخالف القانون يجب مواجهته بقوة وحسم لأنه يساهم بشكل أو بآخر فى صناعة العشوائيات.
بعد أن تسببت أزمة البناء على الأراضى الزراعية فى فقدان 12% من مساحة الأراضى الخصبة عالية الإنتاجية، الأمر الذى يعد بمثابة كارثة قومية لتأثيرها المباشر على الأمن الغذائي، لابد أن تكون المواجهة قوية؛ وقد استعدت الحكومة للتصدى لأى تعدٍّ على الأراضى الزراعية بقوة وحسم، من خلال توجيه المحافظين ومديرى الأمن لمواجهة أية مخالفة أو تعدٍّ على الأراضى الزراعية، والتعامل معها وفق الإجراءات القانونية.
جاء عرض اللواء أركان حرب شريف صالح مدير إدارة المساحة العسكرية خلال افتتاح عدد من المشروعات بالإسكندرية، ليوضح مراقبة الدولة وتصديها بكل حزم لأية مخالفة قانونية يرصدها القمر الصناعي.
ليست الكارثة التى تواجهها الدولة بكل حزم وليدة أخطاء المحليات فقط، لكنها أيضًا من نتاج غياب القانون والرقابة فى العديد من الوزارات والهيئات، كما كانت سببًا فى ضياع أموال طائلة على الدولة كان من الممكن أن تصبح أحد روافد دعم الدولة لتطوير منظومة التعليم أو منظومة التأمين الصحى الشامل وغيرها من القطاعات الخدمية.
بحسب صندوق تطوير المناطق العشوائية، فإن حجم الإنفاق الحكومى لتطوير المناطق غير المخططَّة بلغ 350 مليار جنيه، تم إنفاقها على عمليات إنشاء شبكات صرف صحى ومحطات معالجة ومحطات مياه شرب وشبكات كهرباء ورصف وتوسعة طرق لفك الأزمات المرورية وغيرها من مشروعات تطوير تلك المناطق.
رغم سعى الدولة لمواجهة الأزمة، ظلت عناصر صناعة تلك الكارثة كما هي، فالعشوائيات كما ذكرت كانت وليدة غياب القانون وضعف الحكومة، أو تقديمها مواءمات خلال الانتخابات أو غيرها، أو فساد موظفين وسلبية مواطن.
ورغم ما تقوم به الدولة من تطوير منظومة الخدمات، خاصة التحول الرقمي، كان لابد أن نشير إلى الآفة الحقيقية المسؤولة عن هذا المشهد غير المقبول (العشوائيات) الذى يستنزف خطط التنمية القومية:
– أولًا: المحليات التى كان غياب القانون على “إداراتها الهندسية” وغياب المراقبة والمتابعة والتفتيش على الأحياء والوحدات المحلية إحدى أدوات محترفى البناء بدون ترخيص، فكانت الأبواب الخلفية هى المسار الذى يسلكه هؤلاء فظهرت الأبراج السكنية بارتفاعات تجاوزت الـ 36 مترًا على شارع لم يتجاوز عرضه
6 أمتار، ووُضع قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008 داخل الأدراج، وغابت الأحوزة العمرانية فى ظل الزيادة السكانية، فظهرت مناطق غير مخططة تلتهم حاليًا أموالًا ضخمة لإعادة تأهيلها ورفع مستواها الحضرى.
لم تتغافل المحليات عن البناء غير المخطط أو تغيب القانون عنه فحسب، بل إنها تركت الشوارع فريسة لأصحاب المحال والباعة الجائلين لتتحول إلى أسواق عشوائية جديدة، لتتضاعف حجم الأموال المخصَّصة لحل تلك الأزمة، التى يسأل عنها مسئولو الإشغالات بالأحياء والوحدات المحلية، والتى تتم على مرأى ومسمع مسئولى تلك الإدارات.
– وزارة الزراعة التى تركت الأرض الزراعية فريسة للبناء عليها مكتفية بمحاضر تحيلها إلى المحليات ليصل عدد مخالفات البناء على الأراضى الزراعية والبناء العشوائى إلى 3 ملايين و240 ألف مخالفة.
– ومن المحليات ووزارة الزراعة إلى وزارة التجارة والصناعة التى تركت أكثر من 80% من المحال العامة والتجارية تعمل بدون ترخيص، رغم صدور القانون الخاص بالمحال العامة رقم 154 لسنة 2019 ولائحته التنفيذية بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 590 لسنة 2020، وتولى اللجنة العليا للتراخيص مهامها حيث تم تصنيف أنشطة المحال العامة إلى 15 مجموعة بإجمالى 316 نشاطًا.
وضعت اللائحة مجموعة من العقوبات حال فتح نشاط تجارى بدون ترخيص تصل العقوبة فيها من 20 إلى 50 ألف جنيه لتحقق دخلًا للخزانة العامة، حال تحرير محاضر ضد المحال غير المرخصة، قد يصل إلى 3 تريليونات جنيه يمكن للحكومة استغلالها لاستكمال مشروعاتها التنموية ويدخل الاقتصاد غير الرسمى إلى منظومة الاقتصاد الرسمي، مما ييسر على القطاع المصرفى دمج هذا القطاع المهم (الاقتصاد غير الرسمي) فى عملية الشمول المالى.
– ومن وزارة الصناعة والتجارة إلى وزارة المالية التى تعانى أزمة حقيقية فى وجود قطاع ضخم غير مرخص وغير مشمول بالضرائب، وبحسب تصريحات وزير المالية وبالبحث فى عينة عشوائية فى القطاع المرخص الذى يقدم إقرارات ضريبية، تبين أن 50% من الكيانات المنتمية لهذا القطاع تقع تحت طائلة التهرب الضريبى، فما بالك بالقطاعات التى لا تدخل الاقتصاد الرسمى وتحقق أرباحًا طائلة، ولا تقدم ضرائب عنها!
كما ذكرت الوحدة المركزية لتحليل المخاطر بمصلحة الضرائب أنها خلال إحدى الحملات الميدانية التى شملت 10 آلاف منشأة، تبين أن 55% من هذه المنشآت غير مسجلة بالضرائب، بعضها من السلاسل التجارية الكبرى؛ بل إن منظومة الإقرارات الإلكترونية، بحسب تصريحات أحد مسئولى الوحدة، كشفت أن هناك من يقوم بتحصيل ضرائب القيمة المضافة من المواطنين ويمتنع عن توريدها إلى الخزانة العامة للدولة.
إنه مشهد من المشاهد العبثية التى تتسبب فى إهدار أموال طائلة على الدولة، ففى الوقت الذى بلغ حجم الضرائب على الدخل 396 مليار جنيه للعام الماضى، ومن المتوقع أن تصل إلى 460 مليار جنيه فى العام الجارى، أى ما يقارب نصف متحصلات الضرائب سنويًا، نجد أن حجم الضرائب التى يتم تحصيلها من النشاط التجارى والصناعى العام الماضى 33.8 مليار جنيه، ومن المستهدف أن تصل إلى 42.7 مليار العام الجارى، أما بالنسبة للمهن الحرة فيبلغ حجم الضرائب التى يتم تحصيلها 3.7 مليار، ومن المستهدف أن تصل إلى 4.9 مليار جنيه.
المدقق فى الأرقام يجد أن المهن الحرة والأنشطة التجارية والصناعية تساهم برقم ضئيل رغم حجم الأموال التى تحصل عليها والأرباح التى يحققها النشاط، ويمكننا الاستشهاد هنا بحجم إنفاق الأسر المصرية السنوى على الدروس الخصوصية والذى يصل إلى 47 مليار جنيه سنويًا تدخل جيوب أصحاب مراكز الدروس الخصوصية وبعض المدرسين.
إنه مشهد آخر من مشاهد العشوائية الناتجة عن ضعف الرقابة وغياب تنفيذ القانون، خاصة إذا علمنا أن حجم التهرب الضريبى يبلغ 900 مليار جنيه بحسب تقديرات الخبراء.
من خلال ما سبق نجد أنفسنا أمام مجموعة من صُناع العشوائية ومهدرى المال العام، وهم من تقاعسوا من مسئولى المحليات ووزارة الزراعة ومراقبى الضرائب وكذلك مسئولى متابعة تراخيص المحال والأنشطة التجارية عن تنفيذ القانون، مما يضيع على الدولة أموالًا طائلة.

إن ما تنفقه الدولة لإصلاح ما أفسده صُناع العشوائيات كان كافيًا لبناء مناطق حضارية جيدة التخطيط.